الثلاثاء، 18 يونيو 2013

أين النوم ؟ د.عبدالرحمن العشماوي

أين النوم ؟
 
أقفر الليل من النوم فهل
يمنح الفجـر مناما للمقل؟

وإذا لم يمنح النوم الضحى
فمتى يطمعني فيه الأمل ؟

أيها النوم الذي فارقني
هذه الليلة قل لي ما العمل ؟

كيف ألقاك على الباب الذي
سهري منه إلى جفني دخل؟

أيها النوم متى تبعث لي
منك ما يصلح لي هذا الخلل ؟

خجل النوم وأرخى طرفه
وأنا أعجب من هذا الخجل

قــال لي نومي رويدا إنني
أشتكي في شامنا ما قد حصل

أنا نوم غير أني لم أنم
وأنا أبصر في الشام الوجل

وأرى بشارهم لا يرعوي
بل تمادى وتمادى وقتل

وأرى شبيحة لم يعرفوا
غير ظلم واعتداء وزلل

كيف أعطيك مناما وأنا
أبصر الظالم بالظلم احتفل؟


د.عبدالرحمن العشماوي

الأحد، 3 فبراير 2013

الساعة الخامسة والسابعة صباحاً، بقلم ابراهيم السكران

بسم الله الرحمن الرحيم

ثمة مشهد لا أمل من التأمل فيه، ولا أمل من حكايته لأصحابي وإخواني، هو ليس مشهداً طريفاً، بل والله إنه يصيبني بالذعر حين أتذكره، جوهر هذا المشهد هو بكل اختصار "المقارنة بين الساعتين الخامسة والسابعة صباحاً" في مدينتي الرياض التي أعيش فيها، أقارن تفاوت الحالة الشعبية بين هاتين اللحظتين اللتين لايفصل بينهما إلا زهاء مائة دقيقة فقط..

في الساعة الخامسة صباحاً، والتي تسبق تقريباً خروج صلاة الفجر عن وقتها تجد طائفة موفقة من الناس توضأت واستقبلت بيوت الله تتهادى بسكينه لأداء صلاة الفجر، إما تسبح وإما تستاك في طريقها ريثما تكبر (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه).. بينما أمم من المسلمين أضعاف هؤلاء لايزالون في فرشهم، بل وبعض البيوت تجد الأم والأب يصلون ويدعون فتيان المنزل وفتياته في سباتهم..

حسناً .. انتهينا الآن من مشهد الساعة الخامسة.. ضعها في ذهنك ولننتقل لمشهد الساعة السابعة .. ما إن تأتي الساعة السابعة -والتي يكون وقت صلاة الفجر قد خرج- وبدأ وقت الدراسة والدوام.. إلا وتتحول الرياض وكأنما أطلقت في البيوت صافرات الإنذار.. حركة موارة.. وطرقات تتدافع.. ومتاجر يرتطم الناس فيها داخلين خارجين يستدركون حاجيات فاتتهم من البارحة.. ومقاهي تغص بطابور المنتظرين يريدون قهوة الصباح قبل العمل..

أعرف كثيراً من الآباء والأمهات يودون أن أولادهم لو صلو الفجر في وقتها، يودون فقط، بمعنى لو لم يؤدها أبناؤهم فلن يتغير شئ، لكن لو تأخر الابن "دقائق" فقط، نعم أنا صادق دقائق فقط عن موعد الذهاب لمدرسته فإن شوطاً من التوتر والانفعال يصيب رأس والديه.. وربما وجدت أنفاسهم الثائرة وهم واقفون على فراشه يصرخون فيه بكل ما أوتو من الألفاظ المؤثرة لينهض لمدرسته..

هل هناك عيب أن يهتم الناس بأرزاقهم؟ هل هناك عيب بأن يهتم الناس بحصول أبنائهم على شهادات يتوظفون على أساسها؟ أساس لا .. طبعاً، بل هذا شئ محمود، ومن العيب أن يبقى الإنسان عالة على غيره..
لكن هل يمكن أن يكون الدوام والشهادات أعظم في قلب الإنسان من الصلاة؟
لاحظ معي أرجوك: أنا لا أتكلم الآن عن "صلاة الجماعة" والتي هناك خلاف في وجوبها (مع أن الراجح هو الوجوب قطعاً)، لا.. أنا أتكلم عن مسألة لاخلاف فيها عند أمة محمد طوال خمسة عشر قرناً، لايوجد عالم واحد من علماء المسلمين يجيز إخراج الصلاة عن وقتها، بل كل علماء المسلمين يعدون إخراج الصلاة عن وقتها من أعظم الكبائر..

بالله عليك .. أعد التأمل في حال ذينك الوالدين اللذين يلقون كلمة عابرة على ولدهم وقت صلاة الفجر "فلان قم صل الله يهديك" ويمضون لحال شأنهم، لكن حين يأتي وقت "المدرسة والدوام" تتحول العبارات إلى غضب مزمجر وقلق منفعل لو حصل وتأخر عن مدرسته ودوامه..

بل هل تعلم يا أخي الكريم أن أحد الموظفين -وهو طبيب ومثقف- قال لي مرة: إنه منذ أكثر من عشر سنوات لم يصل الفجر إلا مع وقت الدوام.. يقولها بكل استرخاء.. مطبِق على إخراج صلاة الفجر عن وقتها منذ مايزيد عن عشر سنوات.

وقال لي مرة أحد الأقارب إنهم في استراحتهم التي يجتمعون فيها، وفيها ثلة من الأصدقاء من الموظفين من طبقة متعلمة، قال لي: إننا قمنا مرة بمكاشفة من فينا الذي يصلي الفجر في وقتها؟ فلم نجد بيننا إلا واحداً من الأصدقاء قال لهم إن زوجته كانت تقف وارءه بالمرصاد (هل تصدق أنني لازلت أدعوا لزوجته تلك)..

يا ألله .. هل صارت المدرسة -التي هي طريق الشهادة- أعظم في قلوبنا من عمود الإسلام؟!
هل صار وقت الدوام –الذي سيؤثر على نظرة رئيسنا لنا- أعظم في نفوسنا من ركن يترتب عليه الخروج من الإسلام؟
هذه المقارنة الأليمة بين الساعة الخامسة والسابعة صباحاً هي أكثر صورة محرجة تكشف لنا كيف صارت الدنيا في نفوسنا أعظم من ديننا ..
بل وانظر إلى ماهو أعجب من ذلك .. فكثير من الناس الذي يخرج صلاة الفجر عن وقتها إذا تأخر في دوامه بما يؤثر على وضعه المادي يحصل له من الحسرة في قلبه بما يفوق مايجده من تأنيب الضمير إذا أخرج الصلاة عن وقتها..
كلما تذكرت كارثة الساعة الخامسة والسابعة صباحاً، وأحسست بشغفنا بالدنيا وانهماكنا بها بما يفوق حرصنا على الله ورسوله والدار الآخرة؛ شعرت وكأن تالياً يتلوا علي من بعيد قوله تعالى في سورة التوبة:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
ماذا بقي من شأن الدنيا لم تشمله هذه الآية العظيمة؟!
هل بلغنا هذه الحال التي تصفها هذه الآية؟! ألم تصبح الأموال التي نقترفها والتجارة التي نخشى كسادها أعظم في نفوسنا من الله ورسوله والدار الآخرة؟!
كيف لم يعد يشوقنا وعد ربنا لنا في سورة النحل إذ يقول (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)
أخي الغالي.. حين تتذكر شخير الساعة الخامسة صباحاً، في مقابل هدير السابعة صباحاً، فأخبرني هل تستطيع أن تمنع ذهنك من أن يتذكر قوله تعالى في سورة الأعلى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)..

قال لي أحد أهل الأهواء مرة "المشايخ يمارسون التهويل في تصوير الخلل الديني في مجتمعنا، ولو ركزو على الكبائر لعلموا أن أمورنا الدينية جيدة، والمشكلة عندنا في دنيا المسلمين فقط"
يا ألله .. كلما وضعت عبارته هذه على كفة، ووضعت الساعتين الخامسة والسابعة صباحاً على كفة، طاشت السجلات، وصارت عبارته من أتفه الدعاوى ..
المقارنة بين مشهدي الساعة الخامسة والسابعة صباحاً هي أهم مفتاح لمن يريد أن يعرف منزلة الدنيا في قلوبنا مقارنة بدين الله.. لا أتحدث عن إسبال ولا لحية ولاغناء (برغم أنها مسائل مهمة) أتحدث الآن عن رأس شعائر الإسلام .. إنها "الصلاة" .. التي قبضت روح رسول الله وهو يوصي بها أمته ويكرر "الصلاة..الصلاة.." وكان ذلك آخر كلام رسول الله كما يقول الصحابي راوي الحديث..

بل هل تدري أين ماهو أطم من ذلك كله، أن كثيراً من أهل الأهواء الفكرية يرون الحديث عن الصلاة هو شغلة الوعاظ والدراويش والبسطاء! أما المرتبة الرفيعة عندهم فهي مايسمونه "السجال الفكري، والحراك الفكري" وهي ترهات آراء يتداولونها مع أكواب اللاتيه.. يسمون الشبهات وتحريف النصوص الشرعية والتطاول على أئمة أهل السنة "حراك فكري"!

الصلاة التي عظمها الله في كتابه وذكرها في بضعة وتسعين موضعاً تصبح شيئاً هامشياً ثانوياً في الخطاب النهضوي والاصلاحي .. ألا لا أنجح الله نهضة وإصلاحاً تجعل الصلاة في ذيل الأولويات ..

المهم.. لنعد لموضوعنا.. فمن أراد أن يعرف منزلة الدنيا في القلوب مقارنة بدين الله فلاعليه أن يقرأ النظريات والكتابات والأطروحات.. عليه فقط أن يقارن بين الساعتين "الخامسة والسابعة صباحاً" وسيفهم بالضبط كيف صارت الدنيا أعظم في نفوسنا من الله جل جلاله..
وتأمل يا أخي الكريم في قوله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)..
بل تأمل في العقوبة التي ذكرها جماهير فقهاء المسلمين لمن أخرج الصلاة عن وقتها حيث يصور هذا المذهب الإمام ابن تيمية فيقول:
(وسئل شيخ الاسلام ابن تيمية عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلى النهار ، لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة أستاذ ، أو غير ذلك، فهل يجوز لهم ذلك ؟ فأجاب: لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد، ولا لحرث، ولا لصناعة، ولا لجنابة، ولا لخدمة أستاذ، ولا غير ذلك؛ ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب، فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت ألزم بذلك ، وإن قال : لا أصلي إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك ، فإنه يقتل) [الفتاوى، 22/28]

عزيزي القارئ .. هل لازال هناك من يقول أن "مشكلتنا هي أننا عظمنا الدين وأهملنا دنيا المسلمين" .. بل هل قائل هذا الكلام جاد؟! وأي دين بعد عمود الإسلام؟!
حين تجد شخصاً من المنتسبين للتيارات الفكرية الحديثة يقول لك (مشكلة المسلمين في دنياهم لا في دينهم) فقل له فقط: قارن بين الساعة الخامسة والسابعة صباحاً وستعرف الحقيقة..

ابوعمر - ابراهيم السكران
صفر 1431هـ

الخميس، 31 يناير 2013

دفق الخواطر حول كلمة الحق - بقلم خباب الحمد

دفق الخواطر حول كلمة الحق

بقلم: خباب الحمد


(كلمة الحق) قذيفة ربَّانية في وجه الباطل، تُزلزل كيانه، وتحطم أركانَه، وتقهره وتُهلكه، حتَّى يصل الهلاك إلى دماغه؛ فيعطب ويتلف، يقول تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].

ومَن القاذف إلا الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، فهل ترى للباطل وأهله من باقية؟! وأي شيء سيبقى للباطل حتى يعيده ويبدؤه؟!

فلن يبق منه شيء أبدًا لأنَّه سيضمحل ويزول، فإنَّ الحق مجلجل أبلج، والباطل مهلهل لجلج.

والحق ناطق ساحق ماحق، والباطل مخبط مخلط زاهق: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].

أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة صنمًا، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، { جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49].

لَوْ قَدْ رَأَيْتَ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ *** بِالفَتْحِ يَوْمَ تُكَسَّرُ الأَصْنَامُ

لَرَأَيْتَ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّنًا *** وَالشِّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ

والحق وإن ناوأه المناوِئُ، وكادَه له الكائد، وحاول أن يمكرَ بأهله الماكر، وأراد أن يطمس صورته، فإنَّه سيأتي يومٌ يقول فيه مَن كان على ذلك الباطل: { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51]، وسيعترف بأنَّه كان على باطل وضلال، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].



(كلمة الحق) كالمطر النازل من السماء؛ حيث تسيل به الأودية، وتفيض به العيون، وتسقى به الأرض بعد موتها، وينتفع بها الخلق منافِع شتَّى، وأمَّا الباطل فلو كان كثيرًا كثيفًا، فمآله إلى زوال وسفال واضمحلال؛ {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].

(كلمة الحق) ما كانت تُقال لِتُقمَع، بل لكي يظهر أثرُها ويسْطَع، ويزهق الباطل ويُقلع، ولئن ابتُلي صاحبها فلا بدَّ له من أصدقاء صدق يُدافعون عنه، ولا يُبقونه لظلم السجَّان، ولا لطغيان السلطان، ولا لتجاهل الأصحاب والخلاَّن.

وتأمَّل في حالة رسول الله محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما كان يعرض الإسلام على القبائل والوفود، ويطلب منهم نصرتهم؛ وذلك لأنَّ كلمة الحق عزيزة، وصاحبها عزيز، فلا بدَّ مِن نصرته وحمايته، وتأمل قول الفاروق عمر - رضي الله عنه -: (إنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له)، فالحق لا بدَّ له من قوَّة تَحْمِيه، وتزيح العقبات والعراقيل التي تواجهه، وصدق الله القائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

(كلمة الحق) ما هي إلاَّ جرأة نفسيَّة، وقوَّة داخليَّة، يدفعك إيمانُك الصادق لكي تقولها، بكل ثباتٍ وإباء، ورسوخٍ وشموخ، وانتماء لها واستعلاء، تُشعرك بأنَّك (حر) في زمن كَثُرَ فيه العبيد، حيث انطلقت من عقال العبوديَّة لساحة وباحة الحريَّة فهنيئًا لك!

(كلمة الحق) تحتاج لأشخاص يقولونها ويقولون بها، ويثبتون عليها ولا يتراجعون عنها؛ لأنَّها (حق)، والحق لا رجعة فيه.

(كلمة الحق) إن صدرتْ عن رجلٍ أكبره الناس بها واحترموه وقدَّروه، فما بالك إن صدرتْ عن المرأة، فتحيَّة كبيرة لنساء قائلات بالحقِّ كنَّ فيه أجرأ من الرجال!

كم من شخص قال (كلمة الحق) لم يخلص النيَّة فيها لله وحده، بل قالها يبتغي بها رضا الناس؛ ليكون ويكون! ويصعد على الأكتاف، وتهتف باسمه الجماهير! ولمَّا ابتلي وأوذي وكله الله إلى الناس فتخلَّّوا عنه! وكم مِن شخص ربَّاني قالها لإرضاء الله، بل في حالة إعراض الناس عنه، فحماه الله وعصَمه من أذى الناس، وإن أُوذي حباه الله بمحبَّة الناس ومناصرتهم له ولكلمته.

)كلمة الحق) لها ضريبةٌ اشتكى منها كثيرٌ مِمَّن قالها، وهي بُعد كثيرٍ من الناس عن قائلها، إمَّا خوفًا مِمَّا سيحصل لهم من أذى السلطان أو الناس، أو أنَّ كثيرًا من الناس لا يُعجبهم الصدع بالحق؛ لأنَّ لسان حالهم كلسان حال من قال: (مَا سَمِعْنا بهذا في آبائنا الأولين)، ومِمَّا جاء عن أبي ذر قوله: (مَا زَالَ بِي الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى مَا تَرَكَ الْحَقُّ لِي صَدِيقًا)، فكلمةُ الحقِّ ثقيلةٌ على النفس، ولهذا لا يتحمَّلها إلا القليل، لكن إن أرضيت بها الرحمن، فسيجعل لك من بعد عُسْرٍ يُسرًا.

(كلمة الحق) قد تكون سهلةً ميسَّرة إن كانتْ لا تغضب مَن قلتها أمامهم، لكنَّها مُرَّة للغاية إن قلتها أمام من تظن أنَّهم سيأبونها ويُعرضون عنها، ويثنون أعطافهم نكاية بصاحبها، لكن حسبك أن تقرأ ما قاله الصحابي الجليل أبو ذر - رضي الله عنه -: أمرني خليلي رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بسبع: ((أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني ألا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مُرًّا، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن مِن كنز تحت العرش))؛ أخرجه أحمد، وابن حبَّان، بسند لا بأس به!

(كلمة الحق) مُرَّة فلا تزدْها مرارة بمرارة أسلوبك، وهي مقولة قيلتْ سابقًا، وهي مقولة حق كذلك، فمَن يريد أن يتكلَّم بالحق فعليه باللطف والرفق واللين والحلم والعلم، لعلَّها تصادف قلبًا خاليًا، فيتمكَّن قائلها من إيصالها إليه، وتذكر قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]، فأمرهم الله باللين والرفق مع ذلك الطاغية، مع أنَّه تعالى يعلم في سابق علمه أنَّ فرعون لن يتذكر ولن يخشى، ولكنَّها المهارة في تأدية الحق.

(كلمة الحق) تقال في أي مكان، فهي كلمة نورانيَّة، وحجَّة ربانيَّة، ومنحة إلهيَّة، ولقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم، أو: نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. وهكذا هي دعوة الإسلام القائمة على الحق والصدق والقوَّة، ومن يريد أن يكون مسلمًا حقًّا، فعليه أن يستعدَّ لهذا الحق؛ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1 – 6].

من شرف (كلمة الحق) أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جَعَلَها (من أعظم الجهاد) حيث قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر))؛ أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب.

وفي سنن النسائي عن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع رِجْله في الغرز -: أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر».

قال الخطابي: وإنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأنَّ مَنْ جاهَد العدو كان متَرَدِّدًا بين الرجاء والخوف، لا يدري هل يغلب أو يغلب، وصاحب السلطان مقْهُورٌ في يده، فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف؛ فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجْل غلبة الخوْفِ.

(كلمة الحق) كما أنَّها تُقال أمام السلطان، فلابدَّ من قولها أمام الجماهير والإخوان والأصحاب والحشود، ولربما يكون قولها أمامهم أصعب من أن تقال أمام السلطان!
فكم من جَريءٍ في كلمة الحق أمام السلطان ضعيف جبان في قول كلمة الحق أمام الجماهير؛ خصوصًا إن كانوا من أتباعه ويعلم أنَّ (كلمة الحق) قد تخالف أكثرهم أو كثير منهم!

)كلمة الحق) لا يُستحيى منها ولا ينبغي الخجل من قولها، فإنَّها كلمة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ لأنَّها كلمة طيبة ولا بد أن تكون كذلك.

عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا لا يمنعن أحدًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه))؛ أخرجه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح).

وفي رواية عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ)) أخرجه أحمد بسند جيد.

السكوت عن قول (كلمة الحق) أحيانًا هو من الحق، وتذكر تلك القصَّة الواردة في صحيح الإمام مسلم حينما طلب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن يذهب إلى مكان المشركين ليأتيه بخبر القوم، وألاَّ يتحدَّث شيئًا أمامهم، ولا يفعل شيئًا يُذعرهم على المسلمين، فلو أنَّه تكلَّم أو دافع أو نافح عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكان في ذلك إفسادٌ للمقصد الذي بعث لأجله رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصحابي الجليل حذيفة - رضي الله عنه.

وما يتناقله كثيرٌ من الناس وينسبونه لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلِّم بالباطل شيطان ناطق))، لا يصح مطلقًا عن رسول الله فهو حديث باطل!

لكن ورد في "الرسالة القشيرية "لأبي القاسم القشيري - رحمه الله - أنَّه سمع الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: (من سكت عن الحق، فهو شيطان أخرس)، وهذه الكلمة صحيحة في الأصل، لكنَّها ليست على جميع أحوالها صحيحة، فقد يسكت المرء عن شيء ما يستحق السكوت، ولا يستحق الكلام كما بيَّنا في قصَّة حذيفة.

ولربما يتكلَّم الشخص بكلمة حق، يكون مآلها زيادة إنكار المنكر، فسكوته في هذه الحالة أولى وأوجب.

ويتحدث الإمام ابن تيمية عن هذا السر قائلًا: "كنت آمر أصحابنا ألا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء وذلك مصلحة للمسلمين، فصحوُهم شر من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو، بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره".

كما أنَّ من لا يستطيع إنكار المنكر إلاَّ بقلبه، فإنَّه لا يجب عليه أن ينكره بلسانه، فلقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).

فمَن كان قادرًا على إنكار المنكر بلسانه ولكنَّه سكت فهو الشيطان الأخرس، ومن لم يكن قادرًا على إنكار ذلك المنكر بلسانه، فليس بشيطان أخرس.

(كلمة الحق) تكون في الغضب والرضا، ولربَّما يقول الشخص كلمة الحق في الرضا، لكنَّه لا يقولها في الغضب؛ لأنَّه إن اعتراه غضب فقد يمنعه من قول (كلمة الحق) أو قبولها.

فحريٌّ بنا أن نسأله تعالى أن يرزقنا قول الحق في الغضب والرضا، فلقد كان الصحابي الجليل عمار بن ياسر - رضي الله عنه - يقول مُخبرًا عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أَمَا إِنِّي قَدْ دَعَوْتُ فِيهِمَا - يعني في الركعتين - بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهِ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ))؛ أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح.

كم تأسَّى المسلمون من أناس قالوا (كلمة الحق)، ولم يكونوا على قدر من القوَّة والتجلد والصبر عليها، فهانوا وخاروا وتراجعوا، فظنَّ بعض الناس أنَّ الخطأ في (كلمة الحق)، وما علموا أنَّ المشكلة فيمن قالوها؛ لضعفهم عن تحمُّل ضريبة قول (كلمة الحق)

من يعلم عن نفسه جبنًا وخورًا وضعفًا ويريد أن يستعرض بطولاته وعضلاته فيقول (كلمة الحق)، ثمَّ ينتكس بعدها ويرتكس إن ابتلي، فخير له أن يصمت، فقد قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وثبت عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح أنَّه قال: «اكلفوا من العمل ما تطيقون».



المصدر: موقع المسلم

الأربعاء، 9 يناير 2013

الصمت والمعاش

منعوا الكتابة والنقاش
فاصمت وقل للصمت عاش

إن اللسان إذا سعى
في النار يشوى كالفراش

فاجعل لسانك أرنبا
متدثرا جوف الخياش

فالرأي صار رذيلة
تخفى وتلقى في القشاش

إن الكلام جريمة يا
ويل مرتكب النقاش

والنصح صار جريمة
فكأنه رش الكلاش

فإذا تنفس شاعر
كالقدر فوق النار جاش

وإذا تجرأ عالم أو
كاتب قطعوا المعاش

ورموه في سجن البلا
وكأنه بعض الخشاش

ما بين إبرة عقرب
أو حية ذات انتهاش

لبس القيود أساورا
وخلاخلا .. يا للرياش

من دون حكم محاكم
هل ينتف الطير المراش

لو أن محكمة جرت
علنا قضت أن لا يناش

السجن للعلماء أم
للمجرمين به افتراش

الموت حل بأمتي
كبر و قل للموت عاش

يا من يجرم عالما
ومثقفا فتح النقاش

من سوف يوقظ أمة
تبني على الريح الخشاش

ضاعت إذا علماؤها
ملئوا الزنازن كالكباش

ليس المثقف بائعا
سخ الحروف له فراش

أو منكرا في قلبه
قد كح في جيب القماش

بلسانه أقفاله شدت
وبعينه والأذن شاش

إن المعافى سالم
في يوم غاشية و غاش

فالعلم ليس سلالما
للرزق أو لبس الرياش

و العلم ليس كتيبا
يزهو بمتن أو حواش

العلم تضحية إذا
شغل المداهن بالمعاش

يا من يروم ولاءنا
لسنا قطيعا من مواش

اسكب لنا حرية
إنا إلى الشورى عطاش

ما نال قوم عزة
والرأي فيهم ذو ارتعاش

قولوا لمن قطعوا المعاش
الله قد رزق الخشاش

والرزق مضمون أما
شبعت فراخ في عشاش

إن الحياة مبادئ
ما عاش من عبد المعاش

إن الكلام جهادنا
والرأي للشوك انتقاش

و كلامنا رأي بدا
ما بالشقاق و لا الهراش

فإذا بدا لك صائبا
فخذه فهو لكم رياش

وإذا بدا لك مخطئا
عالجه في مشفى النقاش

شعر؛ عبد الله الحامد